في أمسية فكرية مختلفة ومتميزة عما نعهده متكررا، وبحضور نخبة محدودة من مفكري وباحثي النهضة الإسلاميين، بدعوة من الأستاذ الدكتور سامي العريان، رئيس مركز الدراسات الإسلامية والشؤون الدولية (CIGA) حلّق فيها المفكر الإسلامي الكبير د. جاسم سلطان في فضاءات فكرية جديدة حول ملف بالغ الخصوصية: دور النخب الفكرية في مشروع نهضة الأمة. ولأهمية ما جاء فيها، وصلابته قررت نشره في مقال توثيقي مع بعض الإضافة والشرح الموجز والصور التوضيحية، لتكون وثيقة افتتاحية للباحثين والعاملين في المسار التراكمي للنهضة. لخبرتي السابقة بطبيعة وخصوصية وقيمة الدكتور جاسم سلطان، وما يتناوله من موضوعات صلبة وعميقة، وحرصي على الاستفادة المثلى من الندوة، ذهبت إلى الندوة مستصحبا ثلاثة مفاهيم تمهيدية: 1- أدوار النخب في المجتمعات الإنسانية: وأهمها الاستمرار في الرصد والمتابعة والتحليل، وإنتاج الأسئلة والإجابة عليها، وإنتاج ما وراءها من معرفة، وتلك هي العبادة الخاصة للباحثين. 2- النهضة فعل تراكمي، مما يتطلب تتبع المسار التاريخي لجهود رواد الإنتاج المعرفي والتجديد والنهضة، وتصنيف وتبويب إنتاجهم وإضافتهم، والدروس الخاصة بكل منهم في شكل خريطة لتصنيف وتبويب الجهود والإنتاجات الفكرية المعتبرة لخدمة مسار النهضة. 3- النهضة فعل تكاملي لجهود تيار ممتد ومتواز من المفكرين، مما يتطلب تتبع ورصد الجهود الحالية لرواد الإنتاج المعرفي والتجديد والنهضة، والتفاعل معها استيعابا ونقاشا وإثراء ونشرا. في هذا السياق، كان الاهتمام بهذه الندوة الفكرية الخاصة وضرورة توثيق ما جاء فيها. أسئلة النهضة ودور النخب ــ تمهيد أول وحقيقة واقعة هي أن سؤال النهضة يطرح نفسه منذ قدوم الحملة الفرنسية على مصر 1798 م، واكتشاف الفجوة الحضارية بين الشرق والغرب، والتبشير بعصر جديد ستكون فيه الغلبة والريادة للغرب، والأفول للشرق. فهو سؤال قديم جديد ممتد منذ قرنين وعقدين من الزمان. والملاحظ هنا هو طول فترة الركود العربية الإسلامية، مع المزيد من الاتساع المستمر في الفجوة. ــ تمهيد ثانٍ وتحد كبير هو أن المجتمعات الإنسانية بعضها بدائي في تكوينه الحضاري، كما المجتمعات المنعزلة نسبيا عن الدورة الحضارية العالمية الجارية، وهي أشبه ما يكون بالصفحات البيضاء سريعة الاستجابة والتلقي والتعلم والاستيعاب والدخول في الدورة الحضارية العالمية الجارية، بيد أن مجتمعاتنا العربية والإسلامية (كما وصفها مالك بن نبي بمجتمعات ما بعد الحضارة)، تعاني مشكلة كثرة ما كُتب فيها من الغث والشطط، والمتقادم المتراكم الذي شوّه وأربك بنيتها المعرفية، وامتد إلى ما هو أكثر من ذلك؛ إلى الجهاز المعرفي ذاته المنتج لأفكارها، حتى أصبح جهازا معرفيا منتهي الصلاحية الحضارية، بيد أنه ما زال يعمل وينتج المزيد من الأفكار والمناهج بالغة التقادم والعطب، والبعد عن العصر، التي تقدم إشكالية وتفرض تحديات جديدة أهمها: 1- إرباك المشهد الفكري بالكثير من الأفكار المكررة والمحبطة أحيانا والمعطلة في ذاتها. 2- والمشوشة على ما يتم إنتاجه من أجهزة معرفية أخرى تحاول حل الأزمة والخروج عن النسق المعرفي القديم. 3- تعزز من قوة النظام المعرفي القديم وصلابته، وقوته في مجابهة الأفكار الجديدة الناشئة، وتؤخر فرصة تطوير وتأسيس أجهزة معرفية جديدة. 4- تصنع ردات الفعل القوية، والصدمات العنيفة مع نظام الأفكار الجديدة الناشئة. على الإجمال، تحولت إلى معوق كبير في سبيل الدخول في دورة حضارية جديدة، مما يتطلب أهمية بناء كتلة حرجة جديدة لمهمة التغيير تعمل على: 1- إثارة العقول وجذبها نحو إنتاج معرفي متجدد يعبّر عن كتلة وجهاز معرفي جديد ناشئ؛ يتشكل بقوة المنتمين إليه والمنتجين فيه، كبديل واضح يعبر عن المستقبل ويتحرك نحوه. 2- تفعيل هذه الكتلة الحرجة في تشكيل تيار معرفي جارف يفرض نفسه بتنوعه وطلاقته وثرائه، يعمل في فضاء مفتوح، يستوعب العقول الجديدة ويفتح لها فضاءات التواصل والإنتاج المعرفي والدخول في دورته الحضارية الجديدة. - تمهيد ثالث وبيان لازم هو أن هناك مسارين للنهوض لا بد من تحديدهما والفصل بينهما لتحديد وترشيد وضبط الجهود: المسار الأول: مسار التراكم وتهيئة الساحة للنهوض، الذي تقوده النخب التي تبحث عن حل ومخرج، والوصول أحيانا إلى الدولة وأجهزتها، وهو الذي يعمل فيه الآن المجتهدون في التغيير والنهضة، إما بتفكيك الكتل والأحجار المعوقة وتعبيد وتمهيد الأرض للسير، أو بإنتاج أفكار وامتدادات جديدة للطريق. وبطبيعته فهو مسار بطيء يحتاج لوقت. ويمكننا القول إن هذا المسار بدأ منذ صدمة الحملة الفرنسية، أي منذ 222 عام، وتتنوع فيه الإسهامات، وبطبيعة الحال تتراكم وتتكامل. المسار الثاني: مسار الاحتشاد، الذي تملكه الدول بنخب الحكم التي تديرها، والذي تتوحد وتحتشد فيه كل الطاقات والأدوات من أجهزة الدولة نحو النهوض في المجالات المختلفة، عندما تمتلك الإرادة والحرية السياسة لذلك. وكلما كان مسار التراكم قويا وجاهزا وضاغطا وفاعلا، سارع بانطلاق مسار الاحتشاد، الموسوم تاريخيا بسرعة الانطلاق والإنجاز.
- تمهيد رابع لخريطة الطريق هو أن النهضة تمر بمراحل استراتجية ثلاث:
الصحوة: ويقصد بها الصدمة بالواقع الحقيقي، والتألم للفجوة، والعاطفة والحماسة للتغيير والنهضة. وقد بدأت منذ صدمة الحملة الفرنسية، التي ما زالنا نعيشها إلى الآن.
اليقظة: المرحلة التالية، التي يضاف فيها إلى الحماسة بلوغ الوعي المكافئ للعصر الذي نريد العبور إليه.
النهضة: انطلاق مسار الاحتشاد للنهضة عبر مؤسسات وقدرات الدولة.
تحديات وأسئلة النهضة التي نواجهها للعبور من الصحوة إلى اليقظة
التحدي والسؤال الأول: كيف نعيد صياغة جهازنا المعرفي وتأهيله؟
ويقصد بالجهاز المعرفي كما بيّنه يحيى محمد؛ الدائرة المعرفية. وهو ليس علما ولا مذهبا محددا، بل هو نسق يخترق العلوم والمذاهب، وميزته أنه قائم على أركان خمسة أساسية هي:
1- المصدر المعرفي.
2- الأداة المنهجية.
3- المولدات أو الموجهات.
4- الفهم.
5- الإنتاج المعرفي.
والتحدي والسؤال الكبير هو: كيف نتمكن من إعادة مساءلة جهازنا المعرفي ومساءلته منذ تأسيسه ونشأته ومراحل تطوره، وإعادة صياغته؟ بالتحرر أولا من قيودنا ومعوقاتنا الذاتية بادعاء امتلاكنا كل شيء، وأننا الملاك الحصريون للحقيقية على الكوكب، والهبوط من البرج الهلامي لأستاذية البشرية، إلى مقاعد التتلمذ والتعلم، وفتح فضاء المصادر المعرفية، وتنقيح وتطوير وإضافة أدوات منهجية متجددة أثبتت نجاحها، وإنتاج مولدات معرفية جديدة، وتعزيز قدراتنا الذهنية على الفهم والاستيعاب والإنتاج المعرفي المتجدد. التحدي والسؤال الثاني: كيف ننشئ تيارا عاما جامعا يتجاوز الكيانات المذهبية والتنظيمية الضيقة، يتجاوز حالة الانقسامات والتفرق والتشرذم والصراع الذي بلغ حد الاقتتال الداخلي على مسائل فقهية ومذهبية؟ ومن الغريب أن هذه الظاهرة ضاربة بعمق في تاريخنا، وطول السكوت عليها، وغياب الجرأة على مواجهتها ومناقشتها علميا، كان سببا رئيسيا في امتدادها حتى الآن. أسئلة فرعية كثيرة تحتاج إجابات وإنتاج مفاهيم وقيم وأدلة سلوكية معاصرة؛ لإعادة بناء الأجيال الجديدة على ثقافة التنوع والاختلاف والاحترام والحب والتعاون والتكامل والمؤسسية. لماذا نختلف؟ وكيف نختلف؟ وحدود الاختلاف؟ ولماذ نتفرق في حين يجمتع الآخرون حتى من غير أصحاب الأديان؟ كيف ندير ونستثمر تنوعنا؟ كيف نتحد ونحتشد؟.. إلخ. التحدي والسؤال الثالث: كيف ننتج ثقافة مكافئة للعصر؟ واقعنا القيمي والأخلاقي والفكري والمادي، يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أننا نعيش في حالة تخلف وضعف وتردٍ، وغربة وقطيعة معرفيه مع العالم من حولنا. والخطير في الأمر أننا صنعنا لأنفسنا حوائط عازلة عن العالم المتقدم، بتلغيم الحقل المعرفي الدلالي حتى لا يقترب منه أحد. والواجب هو الانفتاح على العالم، انفتاح التتلمذ المعرفي واستيعاب المعرفة في مجالاتها المختلفة، وبحقولها المتنوعة؛ الاستقرائية والاستنباطية والنقدية، والتوسع في علوم الدلالة وتطبيقاتها في علومنا الإنسانية والكونية، وصولا إلى إنتاج معارفي يكافئ العصر ثم يتجاوزه.
Comentarios